ذوقيات

 

من تراث م/حسام حميدة “الذوقيات”

الذوقيات
تربية الذوقيات لدي الفرد والمجتمع
كتب – م / حسام حميدة رحمه الله

لكل علم أدواته وأداء العلم للهدف المنشود منه مرهون بالتعامل مع هذه الأدوات بالدقة العلمية والأمانة المهنية المتفق عليها .
ولعلم الحديث كما هو معروف أدواته الحاكمة علي صحة الحديث من حيث السند أو المتن وهي في مجموعها أدوات موضوعية عقلية تبحث في المتن من الناحية الشرعية واللغوية وفي السند من ناحية الاتصال والعدالة المطلوبة في الناقل .
ولكن وقفت طويلاً أمام باب من أبواب علم الحديث يعمل به في قبول أو رفض الحديث وما أوقفني أمام هذا الباب دون سائر الأبواب هو أن وسيلة الإدراك فيه بعيدة عن القواعد العقلية والمواد الذهنية المتعارف عليها في قبول أو رفض الحديث .


ففي هذا الباب من علم الحديث قد يصح الحديث من حيث المتن والسند ولكن يرفض العالم الحديث بمقولة معتبرة عند علماء الحديث حيث يقول “هذا الحديث عليه ظلمة”
بمعني رفض الحس الوجداني أن يكون هذا الحديث من أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم وهذه مساحة بعيدة عن إدراك العقل ولا تقع في حدوده ولا تقبل مراجعة علي أساس من أصول مهنية وعلمية متفق عليها .
ولو أردنا أن نضع تحديد تربوي محدد لوصف الذوقيات فإننا لا نستطيع أن نضع تعريف عقلي أو تحديد وصفي لسلوك بعينه وإسقاط ذلك التعريف أو الوصف علي مفهوم الذوقيات .
بل يمكننا أن نقول أنه حاسة تجاه الصواب تستشعر بواسطة الوجدان والحس الداخلي .
ولذلك فهو أقرب ما يكون إلي مفهوم الفتيا الفقهية من حيث مراعاة ظروف الزمان والمكان والإنسان فالفتوى الشرعية تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص مع ثبات النص الشرعي الذي هو المصدر العقلي للفتوى . وذلك بهدف واضح ومعلوم لكل من مارس الاجتهاد الفقهي إلا وهو رفع الحرج وتحقيق المصلحة وإن كان في تحقيق المصلحة المفهوم المادي المحسوس ففي رفع الحرج مفهوم الذوقيات المنشود فلقد رأينا رسول الله صلي الله عليه وسلم يسجد لله شكراً عند قتل أبا جهل ويقول “الحمد لله الذي أخزي فرعون هذه الأمة . ومن منطلق فتوى رفع الحرج ومراعاة المشاعر والأحاسيس مع ثبات المفهوم القيمي الذي عبر به عن أحاسيسه بمقتل أبي جهل وقد جاء عكرمة بن أبي جهل مسلماً .
فينهي بأن ينادي عكرمة بن أبي جهل وينادي في جموع المسلمين بفتوى رفع الحرج .
“جاءكم عكرمة مسلماً فلا تسبوا الأموات كرامة للأحياء”
كتب السلف في كتب الفقه باباً من أعظم وأنفع أبواب الفقه ذلك الذي عنونا له بفقه تأليف القلوب وهو باب واسع من أبواب الفقه وأن غفل عنه الكثير من طلاب العلم . فإن ذلك الباب كله مما يندرج تحت رفع الحرج عن السلوك الشخصي والخروج إلي الواقع بنموذج “المؤمن ألف مألوف” ذلك النموذج الذي يراعي الذوقيات والآداب في الأمر كله ومن إطار الفقه والنصوص التي كانت مادة ذلك الباب المتفرد في العلم خرج إلي الوجود التعليمي في تاريخ السلف الشخصية التي تحول مجموع تلك المعارف إلي آداب وسلوكيات عملية
عرف تاريخ سلفنا الصالح شخص المعلم والمؤدب فإن كان المعلم يؤكل إليه المعارف العقلية والمنهجية أمثال الحديث والتفسير والفقه فكان المؤدب لتربية الوجدان والرقي بالحس الجمالي في شكل تعليم الآداب والشعر والمؤثر من نثر العرب .
إن المتأمل للمساحة العريضة التي شغلها المؤدب في إخراج النموذج التربوي في تاريخ سلفنا الحضاري المتميز يري كم كانت الفكرة الإسلامية متأثرة وإلي حد بعيد بالجانب الوجداني والحس الذوقي المتمثل في آداب الطعام والشراب والزيارة ومصاحبة الأخوان وعيادة المريض وآداب الحديث والحوار وآداب الاختلاف وأدب الصحبة في السفر وأدب الزوج مع زوجته وغيرها مما أفتقد كثيراً في نماذج الانحطاط الثقافي والفكري والذوقي ذلك الذي ظهر في العهود المتأخرة صاحبت الفهم البيئي المحدود .
لنا في دراسة رسول الله صلي الله عليه وسلم منهجية وتبويب أري أنها فرغت السيرة من مفاهيم وحقائق تربوية كبيرة بل أري أحيانا أن هذه المنهجية المتمثلة في تبويب السيرة علي شكل مغازى عسكرية تجعل الدارس يشعر بأن السيرة تمثل التاريخ العسكري للإسلام وبالتالي تجعلنا نقف ونحتفي بالمشاهد العسكرية والبطولات الحربية ونغفل عن الأبعاد الوجدانية التي جسدها الصحابة في علاقاتهم وحياتهم مع رسول الله صلي الله عليه وسلم وأننا لو تناولنا السيرة من هذه الزاوية سوف نستشعر أن السيرة إنما هي تاريخ سمو ورقي الإنسان .
ومن هذه الزاوية أعني تجسيد الرقي الوجداني للإنسان كان انبهار الآخر بهذه الفكرة والعقيدة الجديدة انبهار لا تستطيع تحقيقه المشاهد العسكرية أو البطولات القتالية .
ففي غزة بدر مثلا لم نعلم أن روعة هذه المعجزة الربانية وانتصار رسول الله صلي الله عليه وسلم العسكري الذي أعتبر اختزال لكل الحقائق المتعارف عليها في البيئة الجاهلية . قد فتن أحد أو أثار إعجاب المشركين بهذه الفكرة الجديدة ولكن لما دخل سبعون من الأسري في بيوت الأنصار انبهروا برقي وجدانيات وذوقيات الأنصار وقالوا “بارك الله في الأنصار قد كانوا يأكلون التمر ويؤثرونا بالخبز” ويعلنونا إسلامهم متأثرين بهذه الوجدانيات المؤثرة .
حتى قال الرسول الله صلي الله عليه وسلم عبارته المشهورة “أن الله ليعجب من قوم يساقون إلي الجنة بسلاسل” .
ومن هذا الفهم كانت دعوة الأستاذ سعيد حوى إلي إعادة صياغة السيرة بلغة جديدة تجسد هذه الوجدانيات وتسجل هذه المشاعر والذوقيات وتقدم السيرة بقراءة جديدة سماها “السيرة بلغة الحب”
كم كانت رقة أحاسيس السلف الصالح وسمو تركيبتهم النفسية تلك التي ترجمت في الواقع المعيشي مؤسسة كتلك المؤسسة التي عرفت في التاريخ الذوقي والوجداني للأمة باسم (وقف الزبادي) التي خرجت علينا بطبيعة وظيفتها التي تعكس رقي وسمو وجدانيات من كان وراء تلك الفكرة الإنسانية المبهرة فلقد جعلت هذه الدار لتقدم للخدم والعبيد الذي يكسر إناء سيده إناء بديل حتى لا يتعرض هذا الكائن الضعيف لتعنيف سيده وخصوصاً إذا كان قاسي القلب هل يمكننا أمام طبيعة هذه الوظيفة أن نصنف هذه المؤسسة ضمن مؤسسات العمل الخيري الإنساني كأمثال العديد من المؤسسات الخيرية التي عرفها المجتمع المسلم كأمثال رعاية طالب العلم وكفالة الأرامل والأيتام وإعانة الغارم والمعسر إن المتأمل لهذه المؤسسات قد لا يبذل كثير جهد في الكشف علي أن الدافع لها الحاجة المادية المحسوسة مما يعني تعرض هذه النماذج لما يشبه الهلاك وتتعطل أسباب الحياة إن لم يقدم لها المجتمع يد العون ولكن الدافع لمؤسسة “وقف الزبادي” هنا هو دافع وجداني ذوقي راقي لا يعرفه إلا مجتمع لذوقيات فيها مساحة كبيرة ومعترف بها .
لم يكن السلف وهو يستبطن هذا الفكر الذي أخرج وقف الزبادي بعيداً عن مقومات وتصورات الفكرة الإسلامية التي تجعل العطاء الوجداني يتساوى مع العطاء المادي المحسوس بل وتقر أن عطاء الوجدانيات ضرورة من الضروريات لا تسقيم الحياة بدونها .
“وإذا حضرا القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً” النساء (8) والقسمة هنا تمثل العطاء المادي المحسوس وأولوا القربى واليتامى والمساكين هم حالات إنسانية في حاجة إلي العطاء فجاء الحكم أن لهم حق في العطاء ويجب أن يخرج وفي يده من هذا العطاء ما يكفي ضروريات معيشية تحيط بهم ولم يقف الأمر عند هذا الحد ولكن فوق ذلك فهو له حاجة وجدانية ذوقية يجب أن تشبع فجاء الأمر وفوق العطاء المحسوس “وقولوا لهم قولاً معروفا” فيخرج وقد رضي من الناحتين المادية المتمثلة في العطاء والناحية الذوقية وقد تمثلت في قولا معروفا .
أولم يعلمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أن من أنواع الصدقة أن تمسح علي رأس اليتيم وأن تؤنس الموحش . ولطالما تسألنا أي عطاء أخذه اليتيم من المسح علي الرأس – والصدقة هنا هي أننا أشبعنا حاجة من حاجات اليتيم ألا وهي الاحتواء الوجداني واحتوينا الموحش بأن أدخلنا عليه الأنس .
ما أرق وجدانيات ومشاعر ذلك المشروع الحضاري الذي أخرج وجسد لنا هذه المفاهيم في نماذج بشرية تتحرك علي الأرض .
لقد ارتبطت التربية الجمالية ورقي الوجدان وسمو الأحاسيس النفسية ارتباطا وثيقا بالبعد الإيماني حتى أننا لا نستطيع أن نلتمس طريقاً لرقي الذوقيات والوجدانيات بعيداً عن التربية الإيمانية بشكلها الشمولي .
لما عاد رسول الله صلي الله عليه وسلم من رحلة الإسراء والمعراج حكي لصحابه عن طير الجنة وكيف أنه رقيق حتى أنه إذا ما وقف علي غصن لم ينثني به وهنا صاح أبو بكر “ما ارق طير الجنة يا رسول الله فيقول له رسول الله صلي الله عليه وسلم “لأنت أرق من طير الجنة يا أبا بكر”
كتب الفقهاء فيما يعرف بحق الوقت وعرفوه بأنه الفريضة المقدمة علي سائر الفرائض لظروف وملبسات تمر بها الأمة وفريضة الجهاد تقدم علي سائر الفرائض إذا نزلت بأرض الأمة عدو وإطعام الطعام مقدم في زمن المجاعة وتعليم العلم يقدم إذا شاع الجهل وهكذا………
بجوار ذلك الفهم الفقهي المرتبط بتقدير الواقع وإنزال الحكم بما يتفق وطبيعة ذلك الواقع
كان هناك ما يسمي واجب الوقت وهو يختلف عن حق الوقت في مضمونه ومعناه .فإذا حق الوقت فهم فقهي عملي واقعي فواجب الوقت فهم وجداني نفسي ذوقي
فيعرف واجب الوقت بأنه الحالة النفسية والذوقية التي يكون عليها الفرد أثناء تأدية الفريضة.وكأن العلماء لا يحكموا بأداء الفريضة فحسب ولكن يشترضوا الحالة الذوقية والنفسية التي يجب أن يكون عليها النموذج أثناء تأدية الفريضة
تحكي السيدة عائشة “كان رسول الله إذا خلا بنسائه من أرق الناس”
ويأمر الشافعي “ليس من الفقه الوقار في البستان”
ويوصف الصحابة “كانوا إذا خلوا تقاذفوا بالبطيخ فأذا جد الجد كانوا هم الرجال”
والآن آن لنا أن نفتش عن هذه المعاني الوجدانية والذوقية التي تحدث عنها الفقهاء والعلماء واشترضوها لصحة النموذج المتفق مع تعاليم ومفاهيم المنهجية الإسلامية الصحيحة
إن النموذج المعاصر الموصف بالالتزام بقيم ومفاهيم المنهجية الإسلامية يفتقد وينكر أحيانا الكثير من هذه الممارسات الذوقية الوجدانية .مما يجعلنا في حاجة ملحه إلي وضع منظومة من الذوقيات وأن نجتهد علي إحياءها فى النموذج التربوي الإسلامي المطلوب كما أننا في حاجة إلي أن تكون مواد هذه المنظومة مما رصد واقعيا من انحراف في السلوكيات الجمالية لنموذج المعاصر
1- نحن في حاجة إلي إعادة التركيز في التربية علي آداب الإسلام المختلفة وخصوصا في مرحلة الطفولة والتكوين للقضاء علي هذا الكم الذى لا يستهان به مما يمكن أن يوصف بالهمجية فى السلوك بدء بآداب الطعام والشراب وآداب الحديث والاستئذان وآداب الزيارة وانتهاء بآداب قضاء الحاجة
2- نحن في حاجة إلي رصد المظاهر السلبية في الأداء الذوقي وتجريم ذلك بنفس القدر الذي يجرم به آي انحراف سلوكي متعارف علية وأمثال ذلك كان في الماضي من الأمور المسكوت عليها كشكل من أشكال غياب التربية الجمالية وبالتالي غياب عناصرها بل وأهم هذه العناصر الرفض والتأثيم(فعلي سبيل المثال كنا في الماضي لا نجرم البصق علي الأرض والصوت المرتفع واستخدام هاتف الغير ………….)
3- تم رصد مجموعة من المظاهر التي تتنافى مع السلوك الذوقي ولم يتم رصد آي محاولة تربوية محدده بشكل برنامج نظري و عملي لتغلب علي مجموع تلك المظاهر(اختلال بين في ذوقيات الحوار- آداب الزيارة وخصوصا زيارة المريض- اختلال وغياب لذوقيات الأخوة في الله- اختلال وغياب لذوقيات الخلاف -ذوقيات التعامل مع ممتلكات الآخرين

ليست هناك تعليقات: